ملكاته وصفاته:
قال نافع: لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرًا ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك ابن مروان. وقيل: كان فقهاء المدينة أربعة سعيد بن المسيب وعروة وقبيصة ابن ذؤيب وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل في الإمارة.
وعن ابن عمر أنه قال: ولد الناس أبناء وولد مروان أبا- يعني عبدالملك- ورآه يومًا، وقد ذكر اختلاف الناس، فقال: لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه.
وقال عبد الملك: كنت أجالس بريدة بن الحصيب فقال لي يوما: يا عبد الملك إن فيك خصالا، وإنك لجدير أن تلي أمر هذه الأمة، فاحذر الدماء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق».
وقال الشعبي:ما جالست أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبدالملك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثًا إلا زادني منه، ولا شعرًا إلا زادني فيه.
ولم يزل عبد الملك مقيمًا بالمدينة حتى كانت وقعة الحرة، واستولى ابن الزبير على بلاد الحجاز، وأجلى بني أمية من هنالك، فقدم مع أبيه الشام، ثم لما صارت الإمارة مع أبيه وبايعه أهل الشام، أقام في الإمارة تسعة أشهر ثم عهد إليه بالإمارة من بعده، فاستقل عبدالملك بالخلافة في مستهل رمضان أو ربيع الأول من سنة خمس وستين، واجتمع الناس عليه بعد مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين.
ولما سلم على عبد الملك بالخلافة كان في حجره مصحف فأغلقه، وقال: هذا فراق بيني وبينك. وكان عبد الملك حازمًا فهمًا فطنًا سائسًا لأمور الدنيا، لا يكل أمر دنياه إلى غيره، ولكن له إقدام على سفك الدماء.
وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وأبوها “معاوية” هو الذي جدّع – قطع- أنف حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
ولما بويع لعبد الملك بالخلافة كتب إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب: “بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عمر إلى عبدالملك أمير المؤمنين! سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنك راع وكل راع مسئول عن رعيته (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا) لا أحد والسلام”.
فلما فتحوا كتاب ابن عمر فوجدوه قد قدّم اسمه على اسم أمير المؤمنين، غضبوا، ثم نظروا في كتبه التي كان يكتبها قبله إلي معاوية فوجدوها كذلك، فاحتملوا ذلك منه.
قيل لعبد الملك أسرع إليك الشيب، فقال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين؟ أوتنسى ارتقاء المنبر ومخافة اللحن؟
وروى البيهقي أن عبد الملك وقع منه “فلس” في بئر قذرة فاكترى عليه بثلاثة عشر دينارا حتى أخرجه منها، فقيل له في ذلك فقال: إنه كان عليه اسم الله عز وجل.
وقيل لعبد الملك: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع عن رفعة وزهد عن قدرة، وترك النصرة عن قوة.
وقال أيضًا: لا طمأنينة قبل الخبرة، فإن الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم. وكان يقول: خير المال ما أفاد حمدًا ودفع ذمًا.
وقال عبد الملك لمؤدب أولاده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة فإنهم أسوأ الناس رغبة في الخير وأقلهم أدبا، وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضا، ويمصوا الماء مصًا، ولا يعبوا عًبا، وإذا احتجت أن تتناولهم فتناولهم بأدب فليكن ذلك في سر لا يعلم بهم أحد من الغاشية فيهونوا عليهم.
وكتب إليه كبير الزهاد “زر بن حبيش” كتابا وفي آخره: ولا يطمعك يا أمير المؤمنين في طول البقاء ما يظهر لك في صحتك فأنت أعلم بنفسك واذكر ما تكلم به الأولون:
إذا الرجال ولدت أولادها ** وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها ** تلك زروع قد دنا حصادها
فلما قرأه عبد الملك بكى حتى بل طرف ثوبه، ثم قال: صدق زر، ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق.
وسمع عبد الملك جماعة من أصحابه يذكرون سيرة عمر بن الخطاب فقال: أنهى عن ذكر عمر فإنه مرارة للأمراء مفسدة للرعية.
وقيل لسعيد بن المسيب: إن عبد الملك بن مروان قال قد صرت لا أفرح بالحسنة أعملها، ولا أحزن على السيئة أرتكبها، فقال سعيد: الآن تكامل موت قلبه.
وخطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة ثم قطعها وبكى بكاءً شديدًا ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي.
قال: فبلغ ذلك الحسن فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام.
أمنيته عند الموت:
وقيل: إنه لما احتضر دخل عليه ابنه الوليد فبكى فقال له عبدالملك: ما هذا؟ أتحنّ حنين الجارية والأمة؟ إذا أنا مت فشمر واتزر والبس جلد النمر، وضع الأمور عند أقرانها، واحذر قريشا.
ثم قال له: يا وليد اتق الله فيما أستخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وانظر إلى أخي معاوية فصل رحمه واحفظني فيه، وانظر إلى أخي محمد فأمره على الجزيرة ولا تعزله عنها، وانظر إلى ابن عمنا على بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته ونصيحته وله نسب وحق فصل رحمه واعرف حقه، وانظر إلى الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي مهد لك البلاد وقهر الأعداء وخلص لكم الملك وشتت الخوارج، وأنهاك وإخوتك عن الفرقة وكونوا أولاد أم واحدة، وكونوا في الحرب أحرارًا، وللمعروف منارًا.
ولما احتضر سمع غسالاً يغسل الثياب فقال: ما هذا؟ فقالوا غسال، فقال: يا ليتني كنت غسالاً أكسب ما أعيش به يوما بيوم، ولم أل الخلافة.
وقيل له في مرض موته: كيف تجدك؟ فقال أجدني كما قال الله تعالى: “ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم”.
ولما احتضر عبد الملك أمر بفتح الأبواب من قصره، فلما فتحت سمع قصارًا- الذي يدبغ الملابس- بالوادي فقال: ما هذا؟ قالوا قصار، فقال: يا ليتني كنت قصارا أعيش من عمل يدي، فلما بلغ سعيد بن المسيب قوله قال: الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم.
وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة، في النصف من شوال سنة ست وثمانين، وصلى عليه ابنه الوليد ولي عهده من بعده، وكان عمره يوم مات ستين سنة.